ثمة تقارب شديد بين الحرب والثورة، من حيث جذرية الفعل، وحدته، وهدف القضاء على العدو أو تكبيده أكبر قدر ممكن من الخسائر، لإنهائه بالكلية أو لفتح ثغرات في صفوفه في حالة الحرب، أو في جدار بُينة السلطة في حالة الثورة، وذلك للتفاوض أو فرض أمر واقع جديد، ومن ثمّ علاقات جديدة. ومشكلة الثورة المصرية إنها انطلقت في يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011 كحرب اختراق لجدار السلطة. ثم انتقلت من حرب اختراق لحرب تدمير وسحق لها بعد أيام من ذلك التاريخ، في 28 يناير. وبعد نصر صريح على جحافل قوات الداخلية، بدا كل شيء في الأفق ممكناً. إلا أن حقائق الحرب بقدر ما تتطلب الأمل والإرادة بقدر ما تتطلب الأدوات والقدرة والفهم العميق للمواقع ولتشيكلة الجبهة المقاتلة في صفوف الثوار أنفسهم. وكان أول الأوهام يتعلق بالإجماع على القضاء على النظام. ولم يكن واضحاً أي نظام نقصد: هل هو النظام العام من حيث تداخل وتضافر المنظومات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن حيث هو أفراد وأبنية وهياكل وممارسات ونمط للسلطة؟ وكان هذا هو الأقرب الى تصور وخيال قطاع واسع من الشباب الثوري. أم كنا نقصد بالنظام مبارك وحفنة من الأفراد، وتعزيز أكثر للديموقراطية النيابية؟ كانت الأزمة تتعلق بخلق خطاب ثوري قادر على فرض إجماع، أو على الأقل أمر واقع يستكمل الحرب الضروس لإنهاء السلطة القديمة كليا، بل لإنهاء المجتمع القديم نفسه. والمقصود بالخطاب مجموعة واضحة من التصورات والممارسات تتضافر لتعيد تشكيل الواقع ومنطقه، بل وكيفية إدراكه في العقول.
ثورة واحدة ومجتمعين
كان ثمة فروق واضحة بين الخيال السياسي والحلم الاجتماعي، بين الأجيال المختلفة والفاعلين المتنوعين والمتناقضين داخل المجتمع والحدث الثوري. ومن اليوم الأول يمكن الحديث بوضوح عن ثورة ومجتمعين. فقد كان هناك مجتمع جديد وُلد، وإلا لما خرجت الثورة من رحم الشباب تحديداً، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ودوافعهم التي قد تكون متقاربة أحياناً ولكنها تتباين في الممارسة والاستهداف. فمثلاً، فزع قسم من شباب 25 يناير من حرق الأقسام (مخافر الشرطة) ولكنه هو الآخر كان ثائرا ضد عنف الشرطة تحديداً. وهنا وقع الثوار في أزمة كبيرة كانت عائقاً دون القدرة على إعلان استمرار «الحرب» بما هى قضاء فعلي على الآخر. ذلك لأن تصوارت الفعل ونطاقه كانت في حالة تباين وغياب للإجماع أو للقدرة على فرض هيمنة معينة.
إلا أن التباين الأخطر كان يتعلق بالحلم الاجتماعي والسياسي. فالمجتمع القديم ظل حلمه الرئيسي متمحور حول خطاب مبارك وإن غاب مبارك نفسه: الأمن وضمان استقرار الأوضاع على ما هي عليه. وداخل هذا الحلم، كان الإخوان المسلمون يداعبهم خيال بأن الفرصة حانت ليحلوا محل الحزب الوطني ويرثوا الدولة لصالحهم، مع إبقاء النظام العام على ما هو عليه بعد تدثيره برداء إسلامي. بينما تصور العسكر أمرا شبيها بذلك من خلال صفقة مع الإخوان، وإنشاء ديموقراطية نيابية منزوعة الأنياب. وأما الفلول، فذهبوا لما هو ابعد من ذلك، تصوراً منهم أنهم قادرون على العودة لسدة الحكم من خلال أحمد شفيق.
إنّ رصد وتحليل نتائج انتخابات الرئاسة يشيران لهذا الصراع، حتى لو كان نهج كل من عبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي ليس ثورياً بالمعنى العميق. فنسبة ما حاز عليه معاً هما الاثنان من أصوات كانت أعلى مما ناله شفيق ومرسي كل على حدا. وهو ما يشير إلى أن المجتمع القديم ليس أكثر سوى بنسبة ضئيلة. مع الآخذ بالاعتبار أن كلا من أبو الفتوح وصباحي لا يعبران عن الجديد ولكنهما الأقرب له من حيث إمكانية الدفع بأشخاص أقل تورطاً في المستنقع القديم وتمثيلاً له. وكان هذا مصحوباً بعجز شديد لهذا «المجتمع الجديد» عن خلق قيادة تعبر عنه وتمثله، ويكون لها من القوة والقدرة ما يدفع بها في غمار معركة انتخابية ناجحة، وهو ما لم يتوفر مع المرشح اليساري خالد علي. وانتهى الأمر نسبياً بصراع داخلي بين المجتمع القديم نفسه، متمثلاً في شفيق ومرسي في الدورة النهائية. وبعدها مباشرة، تنصل الإخوان من اتفاقية «فرمونت» (الاجتماع الذي جرى في هذا الفندق بمصر الجديدة في 22 حزيران/ يونيو 2012، عشية الإعلان عن نتائج الدورة النهائية من انتخابات الرئاسة، بمبادرة من الإخوان المسلمين الذين دعوا الشخصيات العامة وبعض رموز الثورة والفكر في مصر، للاتفاق على دعم مرسي مقابل تعهدات سياسية من الإخوان، وانتهى بوثيقة بهذا المعنى) وهي كانت بمثابة صفقة مع القديم ليعطي فرصة للجديد. وبالطبع آثر الإخوان استكمال الحرب على المجتمع الجديد إلى النهاية، بل وصل الصلف بقادتهم إلى حد وصف «فرمونت» بأنه كان خطأ وابتزازاً.
أوهام تحالف 30 يونيو
واليوم يستبشر الجناح الأول من المجتمع القديم، وتحديداً فلول النظام السابق، بالاجماع الحالي. وهناك رعب وفزع في صفوف الثوار من هذا الإجماع المبني أساساً على دعم شعبي واسع، خاصة أن مصر تشهد صعوداً مذهلاً للنعرة القومية وتسيّدا لمحللي نظام مبارك على أغلب الفضائيات وأبواق الإعلام. ويرى البعض أن المطاف سينتهي بوأد الثورة، ليس فقط الديموقراطية ولكن الحرية ذاتها أيضاً. ولكن هل ثمة حقاً إجماع اليوم وعلى ماذا؟ إن الاجماع الوحيد بين شرائح المجتمع المختلفة، باستثناء الإسلاميين وبعض المتعاطفين معهم، لا يتعدى حدود إطاحة سياسة الإخوان من الحكم. خارج هذا الأمر لا يوجد أي شيء آخر، البتة وقطعياً. فالبعض يظن أننا في مرحلة تأسيس لاستبداد عسكري وأمني جديد يصل إلى استبدال فاشية دينية فاشلة بفاشية عسكرية أمنية. ولنتأمل الوضع في أوساط الشباب الثوري أولاً. فقيادات حركة «تمرد» تدعم بوضوح حركة الجيش و«الداخلية» وكل ما ينتهجه هؤلاء في حربهم على ما يسمى بالإرهاب بالمطلق. ولكنها لم تفصح حتى الآن عما هو أبعد من ذلك. أما الأطراف الأخرى، مثل «6 أبريل»، «شباب جبهة الإنقاذ»، وتكتلات بعض الثوريين في المحافظات المختلفة، فالأمر بالنسبة لهم واضح جداً، إلا أن الوضع مقلق جداً. فهم لا يدعمون الجيش خطوة أبعد من تكاتفه مع الشعب في إزاحة الإخوان ومقاومة العنف الإسلامي. والصفحات والتعليقات الشخصية لهم لا تكف للحظة عن التنكيل بالعنف المفرط الذي يمارسه الجيش و«الداخلية» ضد الإسلاميين. هناك إذا حركة دعم ومقاومة في الوقت نفسه، وليس ثمة تماه بالمطلق. ثم ان أغلب الشباب في المناطق الشعبية (وتحديداً مجموعات الشباب من عابديين وروض الفرج وبولاق) سواء من الذين ناصروا الثورة أو لم يناصروها، لديهم إجماع على عدم القبول بأي شكل من الأشكال بعودة السلوك الأمني القديم من قبل «الداخلية». وهم أيضا لديهم علاقة متباينة جداً مع ما يجري، تقع بين الدعم والمقاومة. فالمناطق نفسها التي أحرقت فيها أقسام الشرطة في «28 يناير» هي المناطق التي تدافع عن تلك الاقسام الآن! هناك اتفاق ضمني بين الأهالي و«الداخلية» يقوم على «سأحميك لتحميني ضد أي هجمات متوقعة من الطرف الإسلامي». وكثيراً ما قام الأهالي منفردين بحماية أنفسهم مما بدا لهم انتهاك لمناطقهم من قبل الإسلاميين، حيث أعربت الشرطة بوضوح عن عدم إمكانيتها على التصدي لهم. وهذه علاقة لا تسمح بالتسلط في حقيقة الأمر، حيث لم يعلُ طرف «الداخلية» على الاهالي والمجموعات الشبابية المنظمة. ودائماً ما كان وجود «الداخلية» في حرب المواقع داخل المدن ضد الإسلاميين مصحوبا بتشارك كبير من الأهالي والبلطجية. وثمة فارق كبير بين استدعاء الشعب بصيغة فاشية للقضاء على فصيل، وبين مشاركة الشعب لعجز الأمن في الردع بشكل منفرد. وهناك حقيقة أخرى وهي أن قوات الأمن في كثير من المواقف وقفت حائلاً دون فتك الأهالي والبلطجية بالإسلاميين! هذا مع وجود الكثير من التنافر المكتوم في اللحظة نفسها، لضرورات المعركة بين الداخلية وقطاعات واسعة من المجتمع. فهناك مقاومة حقيقية لعودة الأمن بشكل باطش في كل من الحيز الاجتماعي اليومي والحيز السياسي العام. ثم لا يوجد تنظيم كبير مثل الحزب الوطني لتقوم الداخلية بالبطش لمصلحته، لأنه لا بد من تنظيم مدني يحتكر فكرة الحديث والنيابة عن الشعب. اما أن تمنع الحديث في المطلق لصالح لا شيء، فهذا يعني الدفع الى انفجار شعبي وسياسي واسع النطاق.
لا تستطيع فكرة الوطن بشكل مجرد أن تلعب هذا الدور القمعي والفاشي إلا بوجود حرب خارجية، بل وتحقيق قدر من الانتصار فيها. فما سمح بقيام السمة الاستبدادية في نظام عبد الناصر لم يكن البطش بالإخوان في 1954، ولكنه كان حرب 1956 والنصر السياسي على ثلاث دول مع تكاتف شعبي ومقاومة مسلحة باسلة وغير مسبوقة في مصر. أضف إلى هذا إعادة توزيع الثروة، وتحقيق مكتسبات اجتماعية واقتصادية جديدة لشرائح اجتماعية واسعة. كان خطاب عبد الناصر قادرا على ملاقاة حلم اجتماعي واسع متمثل في التحرر الوطني والخلاص من الاستعمار. وترافق ذلك كله مع غياب أي وسائل للتمثيل الشعبي عبر أحزاب كان قد تم القضاء عليها، بينما كانت قد تمت السيطرة على الدولة. أما الآن فنحن في عصر أتاح أدوات جديدة للتمثيل والتعبير السياسي خارج المؤسسات والدولة في الوقت نفسه. فعلى مدار ثلاث سنوات، لم يخفت صوت الثورة وممارستها، بل وجودها، على الرغم من أن الدولة (القديمة) لم تمس، وليس ثمة تنظيم أو حزب جامع يعبر عن تلك الثورة.
الموجة الرابعة ليست نهاية المطاف
هناك وهم كبير بأن تحالف 30 يونيو يريد المضي قدماً في الحرب إلى نهايتها. فالحديث الآن مأخوذ بشدة النعرة الوطنية/ القومية. ولكنه في فزعه هذا ينسى أن تشكيلة 30 يونيو لن تمضي كثيراً في الحرب. فالحديث عن الفلول والبورجوازية، أحد أبرز الفاعلين في هذا التحالف، هو حديث عن مصالح اقتصادية في المقام الأول. واستمرار الحرب على هذا المنوال هو انتهاء لتلك الشرائح وتضييق على حركتها، حتى على المستوى الشخصي. والحديث عن حرب خارجية أمر أقرب للجنون. فالحرب خارجياً، لكي تكون جادّة وتستطيع حشد الجموع وراءها، فيجب أن تكون ضد إسرائيل وأميركا. وهذه الشرائح لديها علاقات اقتصادية واسعة، بشكل مباشر أو غير مباشر مع أميركا واسرائيل. ولعل هؤلاء المفزوعين، أو هؤلاء القومجيين الأمنيين ينسون أو يتناسون اتفاقية «الكويز» QIZ مع إسرائيل مثلاً ( qualifying Industrial Zones حيث التزمت مصر بموجب تلك الاتفاقية بأن يكون لإسرائيل حصص من المنتجات المحلية بنسب حدها الادنى 11.7 في المئة، ولمصر بالمقابل حصص في الانتاج الاسرائيلي!). أما بقية أطراف التحالف، سواء منها الثوار أم الشرائح الاجتماعية الفقيرة والمهمشة، فالاولى لن تسمح بقمع الحريات باسم الأمن، والثانية لديها مطالب اجتماعية واقتصادية وأخرى تتعلق بالحريات والكرامة على المستوى اليومي، لن تتنازل عنها. ولا تستطيع السلطة رشوة تلك الفئات، لأن هذا يعني إعادة توزيع الثروة، وهو ما لن يسمح به الفلول. وبالتالي لا يمكن لهذا الحلف لا الاستمرار كحلف، ولا المضي قدماً في الحرب حتى نهايتها. ثم أن جهاز الدولة قد يكون عميقا ولكنه مخترق! تلك هي التوازنات القائمة اليوم، في الموجة الرابعة من الثورة وصراعاتها. والعملية الثورية مستمرة إذا.
[ تنشر هذه المادة ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين ”السفير العربي“ و”جدلية“]